صراع النفوذ السوري في لبنان- من الأسد الأب إلى حزب الله

المؤلف: محمد مفتي10.18.2025
صراع النفوذ السوري في لبنان- من الأسد الأب إلى حزب الله

مع انطلاق أتون الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، سعى نظام البعث السوري جاهداً إلى تثبيت أقدامه في هذا البلد المنكوب. لقد وجد نظام حافظ الأسد في فوضى الحرب الأهلية اللبنانية فرصة ذهبية للتدخل العسكري السافر، متذرعاً بحماية الفلسطينيين، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تطلعت قيادة حافظ الأسد في سوريا وأحمد حسن البكر في العراق إلى تشكيل اتحاد وحدوي بين البلدين، على أن يتناوب الزعيمان على رئاسة هذا الكيان الجديد. كان لدى كل طرف دوافعه ومبرراته لهذا التحالف الطموح. إلا أن نائب الرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين، استشعر خطراً داهماً يتهدده، إذ رأى في هذا الاتحاد تهديداً مباشراً لطموحاته في الوصول إلى السلطة التي طالما تاقت إليها نفسه. وجد صدام نفسه محاصراً بين نارين: عدو لدود في الشرق، متمثلاً في نظام الخميني في إيران، وعدو آخر في الغرب، هو حافظ الأسد. ومما زاد الطين بلة، وجود تكتل قوي داخل حزب البعث العراقي يسعى بكل قوته لمنع صدام، المشهور ببطشه ودمويته، من اعتلاء سدة الحكم. لكن صدام، الذي كان يمسك بمفاتيح الأجهزة الأمنية والعسكرية، استطاع ببراعة الإطاحة بأحمد حسن البكر، ثم قام بتصفية جسدية مروعة لكل من عارض وصوله إلى السلطة في مجزرة مروعة عرفت تاريخياً بمجزرة قاعة الخلد.

اتهم صدام حسين جهاراً نهاراً حافظ الأسد بتدبير محاولة انقلاب فاشلة ضد حزب البعث العراقي بهدف منعه من الوصول إلى السلطة، وهو ما نفاه الأسد بشدة. غير أن موازين القوى العسكرية بين سوريا والعراق كانت تميل بشكل واضح لصالح العراق، خاصة بعد الضربات الموجعة التي تلقاها الجيش السوري على يد الجيش الإسرائيلي في لبنان. لذلك، أدرك حافظ الأسد تمام الإدراك حاجة حزب البعث السوري الماسة إلى تحالف إقليمي قوي يحميه من التهديدات العراقية من الشرق ومن إسرائيل، التي تكن له عداءً سافراً، من الغرب. وهكذا، لم يجد الأسد مفراً من التحالف مع إيران، لتكون الحليف الإقليمي الذي يعتمد عليه في مواجهة خصومه.

في أعقاب اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وقفت سوريا إلى جانب إيران بشكل مباشر وغير مباشر ضد نظام صدام حسين. أما التدخل السوري في لبنان، فقد استدعى إعادة ترتيب استراتيجي يسمح لسوريا بالتدخل في الشأن اللبناني بطريقة غير مباشرة. تمثل هذا الشكل في محاولة تكوين ميليشيات عسكرية تدين بالولاء المطلق لسوريا وإيران في آن واحد. وهنا، تم تأسيس حزب الله في عام 1982 برعاية سورية ودعم لوجستي إيراني. كانت سوريا تقدم الدعم العسكري واللوجستي لحزب الله ليكون واجهة للتدخل السوري في لبنان. ولحماية حزب الله وضمان استمراره، قام الأسد بربط ما تبقى من الجيش السوري في لبنان بفرع الأمن والاستطلاع، الذي كان يتخذ من قرية عنجر اللبنانية مقراً له، وعين حافظ الأسد صديقه المقرب غازي كنعان رئيساً لهذا الفرع الحساس.

في المقابل، قوبل التدخل السوري السافر في شؤون لبنان باستياء عارم من قبل العديد من الرموز السياسية اللبنانية البارزة، مثل كمال جنبلاط، وبشير الجميل، ورشيد كرامي، ورينيه معوض، وأخيراً وليس آخراً رفيق الحريري، الذين اغتيلوا جميعاً في ظروف غامضة ومريبة. ومن المؤسف أن اختيار أي رئيس لبناني كان لا بد وأن يحظى بموافقة مباشرة من نظام الأسد، وذلك بعد التنسيق الكامل مع حزب الله. ويذكر نائب الرئيس السوري الأسبق، عبد الحليم خدام، أن بشار الأسد استدعى رفيق الحريري قبل اغتياله بأيام قليلة، وبحضور غازي كنعان، مطالباً إياه بالموافقة على تغيير الدستور للسماح بالتمديد للرئيس إميل لحود لفترة رئاسية ثالثة، وقد أخبر بشار الأسد رفيق الحريري بلهجة تهديدية بأنه هو من يقرر من سيكون رئيساً للبنان.

قبل مقتل الحريري بعدة سنوات، استدعى بشار الأسد أمين سره وصندوقه الأسود في لبنان، غازي كنعان، وقام بتعيينه وزيراً للداخلية، وعين بدلاً منه رستم غزالة في نفس المنصب. وعقب مقتل الحريري، تشكلت لجنة أممية للتحقيق في ملابسات اغتياله. وعندما زار الفريق الأممي دمشق والتقى بغازي كنعان، شعر الفريق الأممي بصعوبة استجواب كنعان داخل الأراضي السورية نظراً للضغوط التي قد تمارس عليه من قبل نظام الأسد، واقترحوا سماع إفادته خارج سوريا بعيداً عن تلك الضغوط. ولكن بعد أيام قليلة من مغادرة الفريق الأممي لسوريا، أعلن تلفزيون دمشق الرسمي عن انتحار غازي كنعان داخل مكتبه بمقر وزارة الداخلية في دمشق.

من المؤكد أن سقوط نظام بشار الأسد قد سبقه السقوط المدوي لحزب الله وتقهقره من سوريا، وهو ما ساهم بشكل كبير في إبعاد الأحزاب اللبنانية عن التهديدات السورية والإيرانية على حد سواء، مما أسهم في تسهيل عملية اختيار رئيس جديد للبنان ورئيس للوزراء. غير أن لبنان لا يزال بحاجة ماسة إلى دعم إقليمي ودولي حتى تتمكن حكومة الرئيس عون الحالية من الصمود في وجه التحديات الجسام التي تواجهها. فالتخلي عن مساندة لبنان قد يفتح الباب مرة أخرى لبعض القوى الخارجية للتدخل في الشأن اللبناني الداخلي. ولبنان اليوم عازم على عدم العودة إلى الوراء، وهو ما سيعيد الأمل مرة أخرى في أن يعود لبنان إلى سابق عهده دولة مستقلة ذات سيادة بعيدة عن هيمنة بعض الدول الإقليمية المتنفذة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة